ونحن نرى أن في هذا الرأي إسرافا في الاستنتاج، فقد كان المتنبي حدث السن، وليس من المعقول أن يوكل إلى الأحداث مثل هذا النشاط الذي يريد طه حسين أن ينسبه إلى المتنبي. نحن أميل إلى الاعتقاد بأن المتنبي إنما قصد به أبوه إلى بغداد، بعد أن تجلت قدرته على قول الشعر طلبا للرزق هناك، ولكنه لم يحظ في بغداد بما كان يأمل بسبب حداثة سنه ولأن أداة الشعر لم تكن قد استكملت في نفس المتنبي. ويميل الدكتور بلاشير إلى الظن بأن المتنبي قد طالت إقامته في بغداد عاصمة الخلافة فاتصل هناك بالعلماء والأدباء يأخذ عنهم . ولم تكن هذه الإقامة لمجرد الاستعداد للخروج إلى الشام كما يرى الدكتور طه حسين، وكلا الرأيين يقومان على الحدس والظن أكثر مما يستندان إلى دليل تاريخي. ولكن الذي لا ريب فيه هو أن المتنبي لم يبق طويلا في بغداد ، وأنه خرج إلى الشام وهو لم يبلغ العشرين من عمره. ونرى أن الأحداث التي كانت تجري في الشام من نزاع بين الإخشيديين وبين خلفاء بغداد ومحاولات الطامعين إنشاء دولة والسيطرة على المدن وإقامة ملك لهم هو الذي لفت المتنبي إلى الذهاب إلى هناك، لأنه قد وجد في مثل هذا الوسط المضطرب مجالا لتحقيق طموحاته التي ولدتها في نفسه آراء القرامطة من ناحية وطموح طبيعي في نفسه من ناحية أخرى، ولأنه في الشام لا يعرفه أحد فلا يمكن أن تقف قصة مهنة أبيه عائقا في تحقيق مثل هذه المطامح. فالناس هناك يجهلون مثل هذه المهنة. ونحن نرى أن المتنبي في هذه الفترة اتصل بالرؤساء والزعماء يمدحهم ولا يكاد يستقر في محل إلا ليتركه إلى محل آخر. يقول عبد الجواد السيد إبراهيم: كانت غرة رحلاته الميمونة إلى بلاد الشام حيث انتقل من بدوها إلى حضرها وقصد طبرية واللاذقية وأنطاكية ، فاتصل في طبرية ببدر بن عمار وفي اللاذقية بالتنوخيين وفي أنطاكية بأبي العشائر الحمداني قريب سيف الدولة، وكان يمدح من اتصل بهم لا يضن بمدائحه على أحد . استقر أول الأمر في الجزيرة وشمال الشام ومدح جماعة من رؤساء البادية وأغنياء الحاضرة وأوساطها أيضا ثم مضى فأقام في طرابلس ح ينا قصيرا، وانحرف إلى طبرية فأقام قليلا في اللاذقية اتصل بالتنوخيين وهم أمراء العرب فمدحهم ثم حدثت بعد ذلك الحادثة التي أدت به إلى السجن، وبقي في السجن نحوا من سنتين، وأطلق سراحه، فغادر جنوب سوريا إلى الشمال وظل ينتقل هناك بين الأمراء حتى هيأ له الاتصال بسيف الدولة. ولعل كثرة تنقله بين المدن وبين رؤساء القبائل مع إعلانه الثورة في شعره هو الذي جعل خصومه يكيدون له عند والي حمص فسجن. أصبح المتنبي خلال إقامته في الشام أكثر شهرة وأقدر على إثارة حسد الحاسدين وكيد الكائدين، واستطاع هؤلاء الحساد أن يكيدوا له عند والي حمص، فكتبوا إليه أبياته التي تدل على استهانته بالدين من ناحية واستعداده للثورة من ناحية أخرى. ولعل صاحب حمص قد خشي أن يثور المتنبي، فألقاه في السجن. ولكن من الرواة من يقول أن سبب سجنه هو ادعاؤه النبوة وخداعه أعرابا من كلب بهذه النبوة، وأن أمره كان يقوى حتى خرج إليه أمير حمص، ففرق جمعه وألقاه في السجن. يذكر ابن تغري بردي: ونزل ببني كلب وأقام فيهم وادعى أنه علوي حسيني، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن أشهد عليه بالشام بالكذب في الدعوتين وحبس دهرا طويلا . وادعاء المتنبي للنبوة أمر مشكوك فيه، والقول فيه يرجع إلى روايات شفهية ثلاث، فالبديعي في (الصبح المنبي) يروي لنا رواية عن أبي عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي وخلاصتها أن الصداقة كانت متينة بين أبي عبد الله والمتنبي، وأن المتنبي قد أظهر له أنه نبي مرسل إلى هذه الأمة الضالة ليملأها عدلا كما ملئت جورا، وأنه يوحى له أيضا وأنه قد أوحى إليه مائة عبرة وأربعة عشر عبرة والعبرة يتجاوز مقدارها الآية من القرآن، وأن معجزته هو أن يحبس الدَّرَّ عن الإبل لقطع أرزاق العصاة الفجار، وأنه استطاع ذلك بحيلة أو بضرب من السحر. وأن أبا عبد الله هذا قد آمن به وامتدت دعوته من اللاذقية حتى وصلت سورية ووصلت السماوة. ورواية أخرى يرويها لنا القاضي ابن شيبان عن الخطيب البغدادي في تاريخه، يقول: إن أبا الطيب قد استقر عند بني كلب فادعى أنه علوي من نسل الحسين ثم ادعى أنه نبي ثم رجع عن دعوة النبوة إلى ادعائه العلوية فكان ذلك سبب سجنه. ويقال إنه كان في أثناء دعوته يذيع قرآنا له، وأن أحد الرواة قد كتب سورة من (قرآنه) ولك نه قد فقدها، ولم يبق من هذا القر آن إلا آيات علقت بذاكرته منها: (والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امض على سننك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله) .
وكان أبو الطيب يومئذ يصرح بعبارته المشهورة: "لا نبيَّ بعدي" ويقول إن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بنبوته وقال: لا، نبيّ بعدي وأنا اسمي في السماء لا!"
هذه هي الروايات التي يعتمد عليها المؤرخون ويستنتجون منها أن أبا الطيب قد ترك الإسلام وأعلن النبوة، ومن أجل ذلك لقب بالمتنبي. والذي نلاحظه على تلك الروايات أن الذين يروونها أشخاص مجهولون، وأن رواياتهم قد تناقلتها الأفواه، فزادت فيها ونقصت، ولكننا نجد أن الرواة المعلومين ممن اتصلوا بالمتنبي وشرحوا شعره، أو ممن جاءوا بعده وعنوا عناية كبيرة بشعره لا يذكرون لنا شيئا عن هذه النبوة كابن جني و أبي العلاء المعري، ونحن نعلم أن أبا العلاء كان قليل الاهتمام في أمور الدين حتى إنه لا يرى بأسا أن يشير إلى هذه النبوة، ولكنه لم يفعل. وقد عرض المستشرق (كراتشكوفسكي) لهذه الروايات، وهو يقول عنها إنها روايات ساذجة غير جديرة بالاطمئنان، ويقول إن ديوان المتنبي لا يشير إشارة إلى دعوى النبوة، وأن شرّاح الديوان لا يعتقدون بذلك، وأن الذين ترجموا للمتنبي لا يذكرون هذه الرواية على أنها رواية قاطعة، كما أن المتنبي أنكر بطرق ادعاءه النبوة، وأن ابن جني صديق المتنبي يذكر أنه إنما لقب بالمتنبي لقوله:
أنا في أمة تداركها الله _________________________
غريب كصـالح في ثمـود _________________________
ما مقامي بأرض نخلة إلا _________________________
كمقام المسيح بين اليهود